للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رققت الحضارة حسّه وفتحت له فى الغزل أبوابا من المعانى والصور التى تمّ عن أثر البيئة وما شاع فيها من ترف مادى وشعور رقيق حاد، ومما يمثل ذلك عنده من بعض الوجوه قوله (١):

يا ليلتى تزداد نكرا ... من حبّ من أحببت بكرا

حوراء إن نظرت إلي‍ ... ك سقتك بالعينين خمرا

وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا

وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا

وتخال ما جمعت علي‍ ... هـ ثيابها ذهبا وعطرا

وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا

جنّيّة إنسيّة ... أو بين ذاك أجلّ أمرا

وواضح فى هذه القطعة أثر فقده لبصره، فإنه لا يكاد يرتفع عن نطاق الشم والسمع واللمس والحسّ، فهو يصف أنفاسها وما تنشره من طيب كطيب الرياض ويصف حديثها وما تذيع فيه من سحر، ويصور جسدها ذهبا وعطرا، أما ما ينعم به من جمالها فشراب بارد سلسبيل صادف صائما يتحرق عطشا. وقلما ارتفع فى غزله عن الحس والسمع والأذن، ونوّه بذلك كثيرا فى شعره، محاولا أن يعتذر عن فقده لمتعة الجمال متعة حقيقية بالبصر، ومن ثمّ مضى يردد فى أشعاره أن السمع يحلّ محل العين فى تقدير الجمال والإحساس التام به، من مثل قوله (٢):

يا قوم أذنى لبعض الحىّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا بمن لا ترى تهذى؟ فقلت لهم ... الأذن كالعين توفى القلب ما كانا

وكان لذلك أثر عميق فى غزله إذ طبعه بطوابع الحس، وليس ذلك فحسب، فقد أماله بشار-كما أسلفنا-نحو الإفصاح فى وضوح عن الغريزة النوعية إفصاحا بثّ فيه كل ما استطاع من فحش وإثم وفسق، لا يتحرّج ولا يرعى دينا ولا خلقا،


(١) أغانى ٣/ ١٥٥.
(٢) أغانى ٣/ ٢٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>