للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأن صمغتها الحمرا بقشرتها ال‍ ... دّكناء قرص على أعكان سمراء

نسعى إليها على جرداء جارية ... من آلة كهلال الأفق حدباء

سوداء تحكى على الماء المصندل شا ... مة على شفة كالشّهد لعساء

والتصوير فى الأبيات بديع، فشجرة السرو المائلة على النيل كأنها أذن مالت لتصغى إلى خريره، ويتخيلها بلونها الأحمر الداكن وهى منحنية على أمواج النيل فى فيضانه كأنها قرص ملتصق بطيات بطن لسمراء عارية. ويقول ابن مكانس إنهم سعوا إليها فى سفينة حدباء كهلال الأفق سوداء، ويتخيلها على ماء النيل الداكن المعطّر عطر خشب الصندل شامة مطبوعة لا على خدّ، وإنما على شفة ضاربة إلى السواد تقطر شهدا وعسلا مصفى.

وبجانب شعر الطبيعة المصرية ومفاتنها الجميلة نجد شعراء يتغنون بمجالس الأنس والشراب، وقد زار مصر-كما مر بنا-أبو نواس أكبر من تغنوا بالخمر وكئوسها وسقاتها وندمائها، ولكن يبدو أنه لم يخلف من مجونه أثرا أو آثارا واضحة، لأن الشعب المصرى بطبيعته معتدل ولا يجترئ على ما حرّمه الدين، وفى رأيى أن المصريين إنما كانوا يحاكون شعراء العصر العباسى فى المديح وغير المديح ودفعتهم هذه المحاكاة أو قل دفعت نفرا منهم نلتقى به منذ أيام الطولونيين إلى التغنى بالخمر، إما إدمانا عليها وإما محاكاة وتقليدا لأبى نواس وأضرابه. وكان أول ما ساعد على ظهور هذا النفر أن أحمد بن طولون مع تمسكه بالدين كان لا يتحرج من معاقرة الخمر ومثله ابنه خمارويه، ويقال إنه كان يشرب أربعين رطلا من النبيذ (١). فحاكاهما بعض الشعراء فى احتساء الخمر، وأخذوا يقصدون لها الأديرة، واشتهرت منذ هذا الحين أربعة أديرة ذكرها الشابشتى فى كتابه الديارات، وهى دير القصير على قمة الجبل الشرقى ويشرف على طرة والنيل، وكان خمارويه كثيرا ما يزوره، ودير مرحنّا بمصر القديمة على شاطئ بركة الحبش، ودير نهيا بالجيزة، ودير طمويه بجوار حلوان.

ويلقانا فى أيام الإخشيديين غير شاعر يعكف على كئوس الخمر حتى الثمالة، يتقدمهم أحمد بن محمد بن طباطبا نقيب الأشراف العلويين بمصر، وفيها يقول: (٢)

أأترك الشّرب والأمطار دائمة ... والطّلّ منها على الأشجار منثور

والغصن يهتزّ كالنّشوان من طرب ... والورد فى العود مطوىّ ومنشور


(١) النجوم الزاهرة ٣/ ٦٣.
(٢) المغرب (قسم الفسطاط) ص ٢٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>