للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وشهِد مظفّر الدِّين مع السُّلطان صلاح الدِّين مواقف كثيرة أبان فيها عن نَجْدةٍ وقوَّة، وثبتَ يوم حطّين، وبيَّن. ثمّ وفد أخوه زين الدّين يوسف على صلاح الدّين نجدة، وخدمة من إربل، فمرض في العسكر على عكّا وتوفّي في رمضان سَنَة ستٍّ وثمانين. فاستنزل صلاح الدِّين مظفّر الدِّين عن حَرَّان والرُّها ففعل، وأعطاه إربل وشهرَزور فسارَ إليها وقدِمها في آخر السنة.

ذكره القاضي شمس الدِّين وأثنى عليه، وقال [١] : لم يكن شيء أحبّ إليه من الصَّدقة، وكان لَهُ كلّ يوم قناطير مُقنْطرة من الخُبز يفرِّقها، ويكسو في السنة خَلقًا ويُعطيهم الدِّينار والدِّينارين. وبنى أربع خَوانِك [٢] للزُّمنى والعُميان، وملأها بهم، وكان يأتيهم بنفسه كلَّ خميس واثنين، ويدخلُ إلى كلّ واحد في بيته، ويسأله عن حاله، ويتفقّده بشيءٍ، وينتقل إلى الآخر حَتّى يدور على جميعهم، وهُوَ يُباسطهم ويمزَح معهم. وبنى دارا للنِّساء الأرامل، ودارا للضعفاء الأيتام، ودارا للملاقيط رتَّب بها جماعة من المراضع. وكان يدخل البيمارستان. ويقفُ على كل مريض ويسألُه عن حاله. وكان لَهُ دارٌ مَضيف يدخل إليها كلّ قادم من فقيرٍ أو فقيهٍ فيها الغداءُ والعشاءُ، وإذا عزمَ على السفر، أعطوه ما يليقُ به. وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يأتيها كلَّ وَقتٍ، ويعمل بها سماطا ثمّ يَعمل سماعا فإذا طاب، وخلعَ من ثيابه سيَّر للجماعة شيئا من الإنعام، ولم تكن لَهُ لذَّةً سوى السَّماع، فإنَّه كَانَ لا يتعاطى المُنكر، ولا يمكِّن من إدخاله البلد. وبنى للصّوفية خانقاتين، فيهما خلقٌ كثير، ولهما أوقافٌ كثيرة، وكان ينزل إليهم ويعمل عندهم السَّماعات. وكان يبعثُ أُمناءَه في العام مرتين بمبلغ يَفْتَكُّ به الأَسرى، فإذا وصلوا إليه أعطى كلَّ واحد شيئا. ويُقيم في كلَّ سَنَة سبيلا للحجّ، ويبعث في العام بخمسة آلاف دينارٍ للمُجاورين. وهُوَ أول من أجرى الماءَ إلى عَرفات، وعمِل آبارا بالحجاز، وبنى لَهُ هناك تُربةً.

قال: وأمَّا احتفالُه بالمَولد، فإنَّ الوَصْف يَقْصُر عن الإحاطة به، كَانَ الناسُ يقْصدُونه من المَوْصِل، وبغداد، وسِنجار، والجزيرة، وغيرها خلائق من


[١] في وفيات الأعيان ٤/ ١١٦ فما بعدها.
[٢] ويقال فيها: «خوانق» ومفردها: خانكاه وخانقاه.