للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفُقهاء والصُّوفية والوعّاظ والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرَّم إلى أوائل ربيع الأوّل ثمّ تُنْصب قِباب خَشب نحو العشرين، منها واحدة لَهُ، والباقي لأعيان دولته، وكلُّ قبة أربع خمسٍ طبقات ثمّ تزيَّن في أوّلِ صفر، ويقعد فيها جَوْق المغاني والمَلاهي وأَرْبابُ الخَيال [١] ، ويبطل معاشُ النَّاس للفُرجة. وكان ينزل كلَّ يومٍ العصر، ويقف على قُبَّة قُبة، ويسمع غِناءهم، ويتفرَّج على خيالاتهم، ويبيت في الخانقاه يعمل السَّماع، ويركب عَقيب الصُّبح يتصيَّدُ، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظُّهر، هكذا يفعلُ كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامنٍ الشهر وسَنةَ في ثاني عشرة للاختلاف [٢] ، فيُخرجُ من الإِبل والبقَر والغنم شيئا زائدا عن الوصف مزفوفة بالطّبول والمغاني إلى الميدان، ثمّ تُنحر وتُطبخُ الألوان المختلفة، ثمّ ينزل وبين يديه الشّموع الكبيرة وفي جملتها شمعتان أو أربع- أشكّ- من الشموع الموكبية التي تحمل كلُّ واحدةٍ على بغل يسنِدُها رجل، حَتّى إذا أتى الخانقاه نزل. وإذا كَانَ صبيحةُ يومِ المولد أنزلَ الخِلع من القَلْعة على أيدي الصُّوفية في البُقَج [٣] ، فينزل شيءٌ كثير، ويجتمع الرؤساء والأعيان وغيرهم، ويَتَكَلَّم الوعاظُ، وقد نُصبَ لَهُ برج خَشب لَهُ شبابيك إلى النَّاس وإلى المَيدان وهُوَ مَيدان عظيم يَعْرض الْجُند فيه- يومئذٍ- ينظر إليهم تارةٍ وإلى الوعّاظ تارة، فإذا فرغ العَرضُ، مدَّ السِّماط في المَيدان للصّعاليك وفيه من الطّعام شيء لا يُحدُ ولا يُوصَف ويمدُّ سماطا ثانيا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكُرسي، ولا يزالون في الأكل ولُبْس الخِلع وغير ذلك إلى العصر، ثمّ يبيتُ تلك الليلة هناك، فيعمل السّماعات إلى بُكْرة.

وقد جمع لَهُ أبو الخطّاب ابن دِحية أخبارَ المولد، فأعطاه ألف دينار.

وكان كريمَ الأخلاق، كثيرَ التّواضع، مائلا إلى أهل السُّنَّة والجماعة، لا يَنْفُقُ عنده سوى الفقهاء والمحدّثين، وكان قليلَ الإقبال على الشِّعر وأهلِه. ولم يُنقل أنّه انكسر في مصافّ.


[١] أرباب الخيال: الممثّلون، أو اللاعبون بخيال الظل.
[٢] يعني للاختلاف في تاريخ مولد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
[٣] جمع: بقجة، وهي صرّة كبيرة ملونة من القماش توضع فيها الملابس والخلع ونحوها.