للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبد وخضع واستكان، ووضع خدَّه على عتبة العبوديّة ناظرًا بقلبه إلى ربِّه ووليِّه نظر الذّليل إلى العزيز الرّحيم، فلا يُرى إلّا متملِّقًا لربِّه خاضعًا له، ذليلًا مستكينًا (١) مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضّى ربّه كما يترضَّى المحبُّ الكاملُ المحبَّةِ محبوبَه المالكَ له الذي لا غنى له عنه ولا بدَّ له منه، فليس له همٌّ غير استرضائه واستعطافه، لأنّه لا حياة له ولا فلاح إلّا في قربه ورضاه عنه ومحبَّته له (٢)، يقول (٣): كيف أُغضِب مَن حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمَّن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبِّه وذِكره؟

وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللِّباس، ويربِّيه أحسن التّربية (٤)، ويرقِّيه في درجات الكمال أتمَّ ترقيةٍ، وهو القيِّم بمصالحه كلِّها، فبعثه أبوه في حاجةٍ له، فخرج عليه في الطريق (٥) عدوٌّ فأسره وكَتَفه وشدَّه وثاقًا، ثمّ ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضدِّ ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكّر تربية والده وإحسانَه إليه الفينة بعد الفينة، فيَهيج من قلبه لواعج الحسرات (٦) كلَّما رأى حاله وتذكَّر ما كان فيه (٧)، فبينا هو في أسر عدوِّه يسومه سوء


(١) «مستكينًا» ساقط من ع.
(٢) «ومحبته» تفرَّدت به ع. و «له» ضُرب عليه في الأصل ول، ولم يرد في ج، ن.
(٣) ج، ن: «ولسان حاله يقول».
(٤) ل: «يزينه أحسن الزينة».
(٥) الأصل، ل، م: «طريق». ع: «طريقه».
(٦) أي: الحسرات المُحرقة للفؤاد، فاللَّعْج: الحُرقة، واللَّاعج: الهوى المُحرِق.
(٧) ع: «كان عليه وكلَّ ما كان فيه».

<<  <  ج: ص:  >  >>