للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد رَوَى الحسنُ عن أبي حنيفةَ رحمه الله (١) أنها إذا اعتكفتْ في مسجدِ الجماعةِ جازَ ذلك، واعتكافُها في مسجدِ بيتهاِ أفضلُ، وهذا هو الصحيحُ؛ لِأَنَّ مسجدَ الجماعةِ يَدخُلُ كُلَّ أَحدٍ، وهي طولَ النَّهارِ لا تقدِرُ أنْ تكونَ مُستتُرةً، ويخُافُ عليها الفتنةُ من الفَسَقَةِ فالمنعُ لهذا، وهو ليس بمعنَى راجعٍ إلى غيرِ الاعتكافِ، فلا يمنعُ جوازُ الاعتكافِ، والحُرمةِ التي ذكرنا إنّما تثبتُ للمسجدِ المُطلقِ لا للمسجدِ المُقيدِ، ونحنُ لا نسلم أنَّ شرطَ الِاعْتِكَافِ في حقهِنَّ المسجدُ المطَلقُ، فإنْ قِيلَ: اللهُ تعالى ذَكَرَ المساجدَ مُطلقةً فلابُدَّ منْ إقامةِ الدليلِ في حقِّ جوازِ اعتكافِها بالمساجدِ المقيّدةِ قلنا: إنما كانتْ المساجُد المطلقةُ شرطًا، والله أعلم؛ لِأَنَّ حالَ الصَّلَاةِ حالُ الُقْربِ، والتحلي باللهِ للنجاةِ، والبناءِ، والاستغفارِ، والإخلاصِ للهِ تعالى بُكلِّ جارَحةٍ بالتحريم من جميعِ أفعالِ الدُّنيا، فإنَّ نفسَ اللبثِ من المعتكفِ هو العبادةُ في المكانِ المعدِّ للصَّلاةِ، ولمّا كانَ المسجُد شرِطًا؛ لِأَنهُ مكانُ الصَّلَاةِ لم يُشَترطْ معهُ معنىً آخرَ، وهو مكانَ صَارَ للهِ تعالى وقد ذَكَرْنا أنَّ صلاتهِا في بيتهِا أفضلُ، فلذلكَ كانَ الِاعْتِكَافُ لها في مسجدِ بيتهِا أفضلُ، وإذا اعتكفتْ في مسجِد بيتِها فتلك َالبقُعةُ في حقِّ المسجدِ الجماعةِ في حقِّ الرجلِ (لا يخرجُ منهُ إِلاَّ لِحَاجةِ الإنسانِ) (٢) (٣)، فإنْ حاضتْ خرجتْ، ولا يلزمُها بهِ الاستقبالُ إذا كانَ اعتكافُها شَهرًا أو أكثَر، ولَكنَّها تَصِلُ قضاءَ أيامِ الحيضِ بِطُهْرِهَا، ومسجدُ بيتهِا الموضِعُ الذي تُصلِّي فيهِ الصلواتِ الخمسَ من بيتِها. هذا كُلُّهُ منَ «المَبْسُوط» (٤)، و «الْأَسْرَارِ» (٥).

(لا يخرجُ مِنَ المسجدِ إِلاَّ لحِاجةِ الإنسانِ)، ثُمَّ في خُروجهِ لقضاءِ تلكَ الحاجةِ لا يتفاوتُ بينَ أنْ يدخُلَ تحتَ السقفِ أو لا فإنهُ جِائزٌ، وكانَ مالِكٌ رحمه الله (٦) يقولُ: إذا خَرجَ لحاجةِ الإنسانِ لا ينبغي أنْ يدخلَ تحتَ سقفٍ، وإن أُواهُ سقفٌ غيرُ سقفِ المسجدِ فسدَ اعتكافُهُ/ وهذا ليسَ بشيءٍ فإنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- كانَ يدخُلُ حجَرَتُه إذا خرجَ لحاجَتِهِ، كذا في المَبْسُوط (٧)، لأنهُ يمكنهُ الِاعْتِكَافُ في الجامعِ فإنَّهُ إذا كانَ اعتكافُهَ دَونَ سبعةِ أيامٍ اعتكفَ في أيِّ مسجدٍ شاءَ، وإنْ كانَ سبعةٌ أو أكثَر اعتكفَ في مسجدِ الجامعِ؛ وذلك لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هو المقامُ، فالخروجُ ضِدَّهُ فيكونُ مُفْسِدًا لهُ إِلاَّ بقدَرِ ما تحققتْ الضرورةُ فيهِ، ولا ضرورةَ في الخُروجِ للجُمعةِ على ما ذكرنا؛ لأنهُ يمكنُهُ أنْ يعتكفَ في الجامعِ على وجهٍ لا يحتاجُ إلى هذا الخُروجِ، وإنّما احتاجَ إليها بسببِ اختيارِهِ مَسجدًا آخَر فلا يكونُ عَفوًا شَرعًا، كما إذا اختارَ الخَروجَ إلى عِبادَةٍ، أو رَأَى إنسانًا يغَرقُ فأنجاهُ فَسَدَ الِاعْتِكَافُ، وإنْ كانَ ذلك عليهِ فَرْضًا لِأَنها وجبتْ بِعَارضِ وُقوعِ ذلكَ الإنسانِ في الماءِ، وأمّا بهِ غنيمةٌ عنها في أصلِ الوضْع بِخلافِ الخُروجِ إلى الغائِطِ، والبولِ؛ لأَنّهُ لابُدَّ منهُ فكانَ مستثنى بِحُكْمِ الوضْعِ فصارَ كما لو استثنى بالنصِّ لمِا أنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ، والخروجُ ضِدَّهُ فلا يبقى معهُ كالصَّوْم مع الأَكْلِ، ولنا ما رُوِيَ عن عليِّ -رضي الله عنه- أنهُ قالُ: «المعتكِفُ يخرجُ للغائِطِ، والبولِ، والجُمعةِ» (٨). فجعلَ الخُروجَ إلى الكُلِّ خُروجًا واحداً، ولِأَنَّ الخُروجَ إلى الجُمعةِ مِعْلومٌ وُقُوعُهُ في زَمانِ الاعتكافِ، فصار مستثنىً مِن نَذْرِهِ كالخُروجِ للحاجةِ، وإذا اعتكفَ في الجامعِ رُبَّما كانَ خُروُجهُ أكثَر؛ لِأَنّهُ يحتاجُ في الخُروجِ لحاجةِ الإنسانِ إلى الرُجوعِ إلى بيتهِ، وإذا كانَ بيتُه بعيدًا يزدادُ خُروجُه إذا اعتكفَ في الجامعِ على ما إذا اعتكفَ في مسجدِ حِّيهِ (٩).


(١) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٣).
(٢) يُنْظَر: بداية المبتدى (١/ ٤٢).
(٣) يُنْظَر: الأصل (٢/ ٢٧٣)، المَبْسُوط (٣/ ٢١٢).
(٤) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٦).
(٥) يُنْظَر: كشف الْأَسْرَار (٣/ ٥٧١).
(٦) يُنْظَر: الاستذكار (٣/ ٣٩٠).
(٧) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: (٣/ ٢١٢).
(٨) رَوَاهُ الترمذي في سننه (٨٠٥)، كتاب أبواب الصَّوْم، باب المعتكف يخرج لحاجته أم لا، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(٩) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٢).