للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمّا قولُه: (أنَّ الخُروجَ للجُمعةِ) يلزمُهُ بسبَب اختيارِهِ بُقْعَةَ أخُرى، فَغَلطٌ (١)؛ لِأَنّا نقولُ: الخروجُ إلى الجُمعةِ مِنْ وَظائِفِ العُمْرِ في كُلِّ إنسانٍ قبلَ أنْ يعتكِفَ؛ لِأَنهُ لابُدَّ لِكُلِّ إنسانٍ مخُاطبٍ مِنَ الخُروجِ إلى المسجدِ الجامعِ شَرْعًا، كما لابُدَّ مِنَ الخُروجِ لقِضَاءِ الحاجةِ طَبعًا، وإنّما سقطَ الخُروجُ إلى الجُمعةِ باختيارِه الجامعَ، والمصيرُ إليهِ قبلَ الوُجوبِ لا أنْ يصيرَ الخروجُ وظيفةً باختيارِهِ البُعدَّ عنْ الجامِعِ فإنهُ على أصلِ سُكْنَاهُ خارجاً عن المسجدِ، فكانَ الخروجُ كانَ عليهِ قبلَ الِاعْتِكَافِ فورَدَ الِاعْتِكَافُ على هذا الأصلِ، فبقى الخروجُ مستثنى فإنْ قِيلَ: إنَّ الجُمعةُ تسقطُ بأعذارٍ كَثيرةٍ مِنَ السفرِ، والرِّقِ، فجازَ أنْ تسقطَ بهذا. قلنا: لا يجوزُ أنْ تسقطَ الجُمعةُ صِيانةً للاعتكافِ؛ لأَنَّ الِاعْتِكَافَ دُونَ الجُمعةِ وُجوبًا لِأَنّهُ واجبٌ بالنذْرِ، وذلكَ بإيجابِ اللهِ تعالى، وما وَجَبَ بإيجابِ اللهِ تعالى ليسَ للعبدِ أنْ يُسقطَهُ بإيجابهِ بنذْرِهِ فإنهُ إذا نذَر صومَ رَجَبَ فصامَ عن الكفارةِ صُحَّ، ولم يتغيرْ حُكْمُ الكفارةِ فيهِ بإيجابهِ، ولم يصير كإيجابِ اللهِ تعالى رمضانَ، كذا في «المَبْسُوط» (٢)، و «الْأَسْرَارِ» (٣).

(ولو أقامَ في المسجدِ الجامعِ أكثرَ منْ ذلكَ لا يفسدُ اعتكافُهُ)؛ (٤) لأَنَّ المفسِدَ للاعتكافِ الخروجُ من المسجدِ لا المكْثِ في المسجدِ (٥) (فلا يُتِمُهُ في مسجدينِ منْ غيرِ ضَرورةٍ) (٦)، وإنّما قَيدنا لِضَرورةٍ فإنهُ إذا أتمهُ في مسجدينِ لضرورةٍ جازَ، فإنهُ إذا اعتكفَ في مسجدٍ فانهدمَ فهذا عذرُهُ، (٧) ويخرجُ إلى مسجدٍ آخرَ؛ لأنهُ مضطرٌ في الخروجِ فصارَ عَفوًا، ولِأَنَّ المسجدَ بَعْدَ الانَهدامِ خَرَجَ منْ أنْ يكونَ مُعتكفًا، والمعتكفُ مسجدٌ يصلِّي فيهِ الصلواتِ الخمسِ بالجماعةِ، ولَا يتأتى ذلكَ في المسجدِ المَهدومِ فكانَ عُذرًا في التحُّولِ إلى مسجدٍ آخرَ، كذا في شروح المَبْسُوط (٨)، (ولو خرجَ من المسجدِ ساعةً بغيرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعتكافُهُ) (عندَ أبي حنيفةَ -رحمه الله- (٩)، وفي «المَبْسُوط» (١٠): وقولُ أبي حنيفةَ -رحمه الله- أقيسُ (١١)، وقولهُما أوسعُ (١٢) قالا (١٣): اليسيرُ مِنَ الخُروج عَفْوٌ لِدَفْعَ الحرجِ، وإنْ لم يُوجُد فيهِ كثيرُ ضَرورةٍ، فإنهُ إذا خرجَ لحاجةِ الإنسانِ لا يُؤْمَرُ بأنْ يشرعُ المشيَ، ولهُ أنْ يمشَي على التُؤَدَةِ فظهَرَ أنَّ القليلَ منَ الخروجِ عَفْوٌ، والكثيرُ ليسَ بعفْوٍ فجعلنا الحدَّ الفاصِلَ أكثرَ منْ يومٍ وليلةٍ، كما قلنا: في نيةِ الصَّوْم في رمضانَ إذا وُجِدَتْ في أكثِر اليوم جُعِلَتْ كوجودِها في جميعِ اليومِ لِمَا أنَّ الأقلَ تابِعٌ للأكثرِ، وأبو حنيفةَ -رحمه الله- يقولُ: رُكْنُ الِاعْتِكَافِ هو المقامَ في المسجدِ (١٤)، والخروجُ ضِدُّهُ فيكونُ مُفَوِتًا رُكْنُ العبِادَةِ، والقليلُ، والكثيرُ في هذا سواءٌ كالأَكْلِ في الصَّوْم، والحدثِ للطَّهارةِ.


(١) المصنف رحمه الله يرى انه يجب أن يختار المعتكف مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، والمذهب يرون جواز خروجه للجمعة أن أعتكف في مسجدٍ لا تقام فيه الجمعة. يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٢)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٣).
(٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٢).
(٣) يُنْظَر: كشف الْأَسْرَار (٣/ ٥٧١).
(٤) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(٥) يُنْظَر: الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٦٧٥)، الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣٢٥).
(٦) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(٧) يُنْظَر: الأصل (٢/ ٢٧٨)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٤).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٣)، تَبْيِينُ الْحَقَائِق (٤/ ٢٠٨).
(٩) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٤)، الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(١٠) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٤).
(١١) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٤)، الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(١٢) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥١).
(١٣) هما مُحَمَّد وأبا يوسف. يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٤)، الاختيار لتعليل المختار (١/ ١٤٧).
(١٤) يُنْظَر: فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٩٤).