للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قولهُ -رحمه الله-: فأنزلَ مَشرُوطٌ في التقبِيلِ (١)، واللَّمسِ أيضًا في حقِّ بُطلانِ الاعتكافِ، وإنْ كانَ ظاهِرَ اللفظِ لا يقتضيهِ حيثُ أطلقهما عن ذلكَ/ الشرطِ، فكانَ هذا نظيرُ أنهُ الظِّهارُ منْ حيثُ الظاهِرُ على أصلنِا في أنَّ المُطلقَ غيرُ محُمولٍ على المقيدِ (٢)، وإنْ كانَ في حادثةٍ واحدةٍ، ولكنَّ الرِوايةَ منصوصةٌ في فتاوى الإمامِ الولوالجي -رحمه الله- (٣): على أنَّ الإنزالَ شَرْطٌ في التقبيلِ، واللَّمْسِ لإفسادِ الاعتكافِ، فقالَ: إنّ التقبيلَ، واللَّمْسِ بِدُونِ الإنزالِ لا يُفسِدُ الاعتكافَ (٤) (٥)، ولكنهُ حَرَامُ؛ لِأَنَّهُ إذا اتصلَ بهِ الإنزالُ حُرِّمَ؛ لِأَنَّ الجِمَاعَ مَحظورٌ اعتكافُهُ فما هو مِن تَوابِعِهِ يَكونُ محَظورًا أيضًا بخلافِ الصَّوْم؛ لأَنَّ الجَمِاعَ ليسَ بمحظورِ الصَّوْم، بل هو نقيضٌ؛ لِأَنَّ الرُكْنَ هو الكفُّ عن قضاءِ الشهوتين، وهذا الركنُ لا يفوتَ باللمسِ، والتقبيلِ، وإنما يفوتُ بالجِمَاعِ، ولو لم يُنزلْ لا يَفْسُدُ، وإنْ كانُ محُرِمًا؛ لأنهُ ليسَ في معنى الجِمَاعِ، ويُقالُ: لأنهُ ليسَ في معنى الجِمَاعِ دليلٌ؛ لِقولِه: لا تفسدُ لا لِقولِه: وإنْ كانَ محُرِمًا؛ لِأَنَّ كونَهُ ليسَ في معنى الجِمَاعِ لا يصلحُ لإثباتِ الفَرْقِ في أنّ ذلكَ الفِعْلَ مُحرَّمٌ في الاعتكافِ، وغيرُ محُرُّمٍ في الصَّوْم، ولكنْ يصلحُ دليلًا لإثباتِ التسويةِ في عَدَمِ إفسادِ الِاعْتِكَافِ والصَّوْم، ولِأَنَّ معنى الفرقِ بينَ كونِهِ محُرِمًا هنا، وغير مُحرِمٍ في الصَّوْم قد ذكرناه مرتين فتذكَّرْ فإنْ قِيلَ: هلا جعلتَ نفسَ المُباشَرةِ (٦) مُفِسدَةٌ من غيرِ إنزالٍ بظاهرِ قولهِ تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} (٧)، وتلكَ تتحققُ في الجِمَاعِ دونَ الفرجِ قلنا: لِأَنَّ مجازَها، وهو الجَمِاعُ قرارٌ فيبطلُ أنْ تكونَ الحقيقةُ مُرادُهُ (٨)؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مُعتَبُرُ بالصَّوْم فيهاِ، ونفسُ المباشرةِ لا يفسدُ الصَّوْم كذا هنا (٩)، كذا ذُكِرَ السؤالُ، والجوابُ في «الْأَسْرَارِ» (١٠) ومَنْ أوجبَ على نفسهِ اعتكافَ أيامٍ لَزِمَهُ اعتاكفُها بلياليها (١١) بأنْ قالَ: للهِ عليّ أنْ أعتكفَ ثلاثينَ يومًا، وكذلك لو قالَ: للهِ عليَّ أنْ أعتكفَ شهرًا، ولم ينوِ شهرًا بعينهِ فهو مُتتابِعٌ عليه ليلًا، ونهارًا يفِتتحُهُ متى شاءَ (١٢)، وإنْ فَرَّقَهُ استقبلهُ، وقالَ زُفَر: هو بالخِيارِ إنْ شاءَ تابعَ، وإنْ شاءَ فَرّقَ (١٣)؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ فَرْعٌ على الصَّوْم فإنْ قالَ: لا أصلَ لهُ في الفرائضِ لا يَصِحُّ التزامُهُ بالنذْرِ، ولا أصلَ للاعتكافِ في الفرائضِ سوِى الصَّوْم، ثُمَّ التتابعُ في الصَّوْم لا يجبُ بمَطَلقِ النذْرِ، فكذلكَ في الاعتكافِ، ولنا أنَّ الِاعْتِكَافَ يدومُ الليلَ، والنهارَ جَميعًا فمُطلقُ ذِكْرِ الشَّهرِ، والأيامِ فيهِ يكونُ مُتتابعًا، كاليمينِ إذا حَلَفَ لا يُكُلِمُ فُلانًا شَهرًا أو عَشَرة أيام والآجالُ، والإجاراتُ بخلافِ الصَّوْم فإنهُ لا يدوُم الليلُ، والنهارُ، كذا في شروح «المَبْسُوط» (١٤).


(١) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣)، تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥٢).
(٢) يُنْظَر: أصول السَّرَخْسِي (٢/ ٢٦).
(٣) يُنْظَر: فتاوى الولواجي (١/ ٢٤٢).
(٤) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣)، تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥٢).
(٥) هذا هو مذهب الأحناف وللشافعي قولان أحدهما: أنه يفسد لمجرد اللمس والقبلة. والثاني: إن أنزل يبطل، وإلا لا، وبه قال الإمام أحمد، وقال مالك يبطل مطلقاً. يُنْظَر: العزيز شرح الوجيز (٦/ ٤٨٢)، الْمَجْمُوع (٦/ ٥٢٤)، الإنصاف (٣/ ٢٧١)، المبدع شرح المقنع (٣/ ٢١) الاستذكار (٣/ ٤٠٣)، البيان والتحصيل (٢/ ٣٥٣).
(٦) المباشرة: من باشر الرجل المرأة، وذلك إفضاءوه ببشرته إلى بشرتها. يُنْظَر: معجم مقاييس اللغة (١/ ٢٥١).
(٧) سورة البقرة الآية (١٨٧).
(٨) يُنْظَر: بداية المجتهد (١/ ٣١٦)، الأحكام لابن العربي (١/ ١٣٦).
(٩) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٤٠٠).
(١٠) يُنْظَر: كشف الْأَسْرَار (١/ ٢١٤).
(١١) يُنْظَر: الأصل (٢/ ٢٩٧)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١١).
(١٢) في هذه المسألة خالف المصنف رحمه الله المذهب. فالأحناف يرون أنه بالخيار إن شاء تابع أو فرّق وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة، وقال الشَّافِعِي رحمه الله حكم الِاعْتِكَافِ كحكم الصَّوْم، لأن اللفظ مطلق عن قيد التتابع، وعن نية التتابع، فيجرى على إطلاقه، كما في الصَّوْم، وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١١)، حاشية ابن عابدين (٢/ ٤٥١) الأم (٢/ ١٠٥)، الْحَاوِي (٣/ ٥٠٠)، الْمُغْنِي (٣/ ١٥٥)، حاشية الروض المربع (٣/ ٤٨٦).
(١٣) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١).
(١٤) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٦).