للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستمر في الإجابة حتى قال: "فكذلك إذا علم أن الباري تعالى منزه عن الجسمية والعرضية والحد والجهة والأعضاء والجوارح والحركة والسكون ومنزه عن الميل والحظ والنفور والرقة، ثم إنه وصف بعد ذلك بالمحبة والرضا والسخط والهمة أو بالحركة والجارحة علم قطعاً أن إطلاق ذلك عليه مجاز لا حقيقة .. " (١).

كذلك نجد القاضي عبد الجبار يسلك نفس المنهج مع النصارى فيقول في مناقشته معهم: "ولو ثبت ما ادعوه سمعا، لوجب أن يتأول على وفق ما يقتضيه العقل" (٢)، وإذا جئنا إلى الغزالي في كتابه الرد الجميل فإننا نجد لفظ "التأويل" تكرر في الكتاب فتجدها في ديباجة الكتاب كما تجدها في خاتمته، بل نجد الغزالي يقرر أصلين ذكر أنهما متفق عليهما بين أهل العلم: أحدهما: أن النصوص إذا وردت فإن وافقت المعقول تركت وظواهرها. وإن خالفت صريح المعقول وجب تأويلها، واعتقاد أن حقائقها ليست مرادة، فيجب ردها إذ ذاك إلى المجاز.

الثاني: أن الدلائل إذا تعارضت، فدل بعضها على إثبات حكم، وبعضها على نفيه، فلا نتركها متعارضة، إلا وقد أحسسنا من أنفسنا العجز باستحالة إمكان الجمع بينها، وامتناع جمعها متظافرة على معنى واحد (٣).

ثم شرع في نقد عقائد النصارى على ضوء هذين الأصلين حيث أول نصوص الأناجيل التي ظاهرها يدل على ألوهية عيسى -عليه السلام- مستدلا بالنصوص الدالة على إنسانيته، والمقصود هنا بيان أن التأويل الكلامي الذي بسببه عطل عموم أهل الأهواء والمتكلمون بوجه خاص النصوص الشرعية كان أحد الأسس المنهجية في دراسة الأديان عند المتكلمين.

[رابعاً: الاعتماد على المنطق والفلسفة]

من الأسس التي يقوم عليها منهج المخالفين: الاعتماد على القواعد المنطقية والطرق الفلسفية واستخدام مصطلحاتها في تقرير العقائد، فقد حاول أصحاب المقالات الدفاع عن الإسلام وحقائقه بالمنطق، واستعملوا الأسلوب الفلسفي لمواجهة الاستدلالات الفلسفية التي استعملها أتباع الأديان، وأهل الإلحاد.

وقد لا تجد عناء في ضرب أمثلة تدل على استعمال أهل الكلام الفلسفة في دراسة الأديان؛ إذ أن كلّ كتب أهل الأهواء في المقالات -إلا ما ندر- بنيت على هذا الأساس، فألفاظ: الجوهر، والعرض، والجسم، والمتحيز، والمركب، والأحوال المتضادة هي ما يقابلك في افتتاح تلك الكتب عند أول أصل يجب إثباته وهو وجود الله، فهذا الفخر الرازي يقول في صدر مناظرته مع النصراني: "فقلت له الكلام في النبوة لابد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الذي تقوله باطل، ويدل عليه وجوه:

الوجه الأول: أن الإله عبارة عن وجود واجب الوجود لذاته، بحيث لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضا ... " (٤).


(١) المصدر السابق ص ٧٠.
(٢) المغني في أبواب التوحيد والعدل ٥/ ١٤٢.
(٣) الرد الجميل لألوهية المسيح، لأبي حامد الغزالي، تحقيق عبدالعزيز عبد الحق حلمي، ٢٤٢ - ٢٤٣، الهيئة لشؤون المطابع الأميرية، المكتبة العصرية، بيروت، ١٣٩٣.
(٤) مناظرات في الرد على النصارى ص ٢٢.

<<  <   >  >>