للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذكر في «الذخيرة» (١): هذا كله في الِاعْتِكَافِ الواجبِ بأنْ أوجبَ/ الِاعْتِكَافَ على نفسهِ، وأمّا في الِاعْتِكَافِ النفلِ، وهو أن يَشْرعَ فيهِ منْ غيرِ أنْ يوجَبهُ على نفسه، لِا بأسَ بأن يخرجَ بُعِذْرٍ، وبغيرِ عُذْرِ في ظاهِرِ الرِوايةِ (٢)، فإنَّ اعتكافَ التطوُعِ غيرُ مُقَدَرِ في ظاهرِ الروايةِ على ما ذكرنا؛ لِأَنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لم يكنْ لهُ مَأَوَى إِلاَّ المسجدَ في غالب أِحوالهِ، لم يتخذْ مَوْضِعًا آخرَ مأوَىَ إِلاَّ المسجدَ، فكانَ أَكْلُهُ متحقِقًا فيهِ حينئذٍ (٣).

(ولا بأسَ بأنْ يَبيِعُ، ويُبُتاعُ (٤) مِنْ غيرِ أنْ يُحضِرَ السِّلْعَة) (٥)، أيْ: منْ غيرِ أنْ تحضُرَ المسجدَ السِّلعَةُ (٦) لِما أنَّ الإحضارَ يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (٧)، ثُمَّ هذا الذي ذَكَرهُ منْ إباحَةِ البيعِ والشِّرَى معناهُ: إذا باعَ واشترَى لنفسِهِ حاجَتهُ الأصليْة (٨)؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لابُدَّ منهُ، وأمّا إذا باعَ، واشتَرى للتِّجارةِ يُكْرَهُ (٩)؛ لِأَنَّ المسجدَ بُنيِ للصَّلاة لِا للتِّجارةِ (١٠)، كذا في التجنيسِ (١١)، ويُّدلُ على صحة هذهِ الروايةُ أيضًا، ما ذَكَرهُ في الْكِتَابِ بقولهِ: وُيكُرهُ لغيرِ المعتكِفِ البيعُ، والشِّرى في المسجِدِ (١٢) للحديثِ (١٣) فُعِلمَ بهذا أنَّ إباحةَ البيعِ والشِّرى لِأَجْلِ الضرورةِ، والثابتُ بالضرورةِ يتقدَّرُ بِقَدَرِ الضَرورةِ (١٤)، وهي الشِّرى والبيعُ فيما لابُدَّ منهُ في معاشِهِ دُونَ غيرِه، ولا يتكلمُ إِلاَّ بخيرٍ فإنْ قلتَ: هذا النفيُ، والإثباتُ من المستثنى منهُ، والمستثنى ثابِتٌ في حقِّ كُلِّ مُسلمِ. فما وجهُ تخصيصِهِ بالمعتكِفِ؟ قلنا: كانَ هذا من نظيرِ قولهِ تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (١٥)، وقولِه تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ} (١٦) (١٧)، ولفظُ مُخْتَصرُ القُدُوري (١٨) في الحجِّ يقولُ: ويبقى ما نهى اللهُ تعالى عنهُ مِنَ الرفَثِ، والفُسوقِ، والجِدالِ، والظُلم حَرَامٌ في كٌلِّ وَقْتٍ، ومكانٍ، والاتقاءُ مما نهى اللهُ تعالى مِنْ تلكَ الأشياءِ الثلاثةِ المذكورةِ واجِبٌ في كُلِّ وَقْتٍ، ومع ذلك خصَّهُ بالذِّكْرِ في ذلكَ الوقتِ، والمكانُ لِبَيانِ عِظَمِ حُرْمَةِ الظُلمِ في ذلكِ الوقتِ، والمكانُ بالنسبةِ إلى سائرِ الأوقاتِ، والأماكنُ فكانَ معناهُ، ولا يتكلمُ إِلاَّ بخيرٍ في جميع الأوقاتِ خُصوصًا في حالةِ الِاعْتِكَافِ فإنَّ حُرمةَ التَكَلُّمِ بالشِّر فيها أشدُّ بالنسبةِ إلى سائِرِ الأوقاتِ، وُيكْرَهْ لهُ الصمتُ (١٩)، قِيلَ: معنى الصمتِ: أنْ ينذُرَ بأنْ لا يتكلمُ أصلًا كما في شريعةِ مَنْ قَبَلنا، وقِيلَ: إنْ يصمُتُ، ولا يتكلمُ أصلًا منْ غيرِ نَذْرِ سابقٍ، كذا قالهُ الإمامُ بدُر الدَّينِ الكردري (٢٠). لكنَّ تعليلَ الْكِتَاب بقولهِ: لِأَنْ صومَ الصمتَ ليسَ بِقُرْبَةٍ في شريعتِنا (٢١)، وكذلك في «المَبْسُوط» (٢٢) يأتي هذا التأويلُ حيثُ أطلقَ اسمَ الصَّوْم، وهو ينصرفُ إلى الصَّوْم المعَهودِ، وكان معناهُ، وُيكَرهُ أنْ ينويَ الصَّوْم المعهودَ، وهو الإمساكُ عن المفطراتِ الثلاثِ مع زيادةِ نَيةِ أنْ لا يتكلمَ، ويؤيدُ هذا التأويلُ ما ذُكِرَ في الكشَّافِ، والتيسير (٢٣) (٢٤)، فقالَ في الكُشَّاف (٢٥) في قولهِ تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (٢٦): وقِيل: صيِامًا إِلاَّ أنهم كانوا لا يتكلمونَ في صيامِهم، وقد نهى رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- عن صومِ الصمتِ لأنِّهُ نُسِخَ في أمتهِ، وفي التيسير (٢٧) قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}، أي: التزمْتُ صمتًا، وإمْساكًا عن الكلامِ، وقِيلَ: (٢٨) أيْ حقيقةَ صومِ، وكانَ صومُهم فيهِ الصمتُ فكانَ ذِكْرٌه، والتزامُهُ، وكانَ جوازُ ذلك في تلكِ الشريعةِ، وقد نُسِخَ ذلك فينا، وقد وُجِدَتْ رِوايةٌ منصوصةٌ مؤثِرةٌ لِما ذَكَرْتُ من التأويلِ بخطِّ شَيْخِي -رحمه الله- (٢٩) منقولًا عن كشفِ الْأَسْرَار (٣٠) قال: حدثنا مُحَمَّد بنُ قدامةَ الزاهدُ البلخي (٣١) قالَ: حدثنا شجاعُ بنَ مخلدِ البغدادي (٣٢) قالَ: حدثنا زكريا بن [أبي] (٣٣) زائدة (٣٤) قال: حدثنا أبو حنيفة، عن عدي بن ثابت (٣٥)، عن أبي حازم (٣٦)، عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: «نهى رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ صومِ الوِصَالِ، وصومِ الصَّمْتِ» (٣٧) قالَ زكريا بنُ [أبي] (٣٨) زائِدُةَ: فقلتُ لأبي حنيفةَ -رحمه الله-: ما صَوْمُ الصمْتِ؟ قالَ: أنْ يصومَ ولا يُكِلمَ أحدًا في يومِ الصَّوْم (٣٩)، ويحرمُ على المعتكفِ الوَطْئُ (٤٠)،] ولا يُقالُ: كيفَ يتهيأُ لهَ الوطْئُ، وهو في المسجدِ (٤١) لأنا نقولُ: جازَ للمعتكِفِ الخروجُ للحاجةِ الإنسانيةِ فعندَ ذلك أيضًا يحرُمُ عليهِ الوطئُ حتى يفسدَ اعتكافُهُ لما أنَّ اِسَم المعتكِفِ لا يزولُ عنهُ بُخِروجِهِ ذلك، ورتَّبَ ذلك الحُكْمَ على المعتكفِ.


(١) يُنْظَر: الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٦٧٤).
(٢) هذا في ظاهر الرواية أنه لو خرج بغير عذر في اعتكاف التطوع فإنه لا يفسد، وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي حَنِيفَةَ أنه يفسد بناء على أنه مدته مقدرةٌ بيوم كالصَّوْم يُنْظَر: تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣٧٤)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٥).
(٣) يُنْظَر: الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ٢١٣).
(٤) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥١)، مجمع الأنهر (١/ ٣٧٩).
(٥) يُنْظَر: بِدَايَةُ المُبْتَدِي (١/ ٤٢).
(٦) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣٢٦).
(٧) سورة النساء الآية (١٢٨).
(٨) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣)، مجمع الأنهر (١/ ٣٧٩).
(٩) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٧)، تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥١).
(١٠) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٩٧).
(١١) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٥١).
(١٢) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣٢٦).
(١٣) يشير المصنف رحمه الله إلى الأحاديث الواردة في النهي عن البيع والشراء في المسجد ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد (٢/ ٨٢)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، وماأخرجه النسائي في سننه الكبرى، باب ما يقول لمن يبيع أو يبتاع في المسجد (٩/ ٧٧)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (١/ ٧١).
(١٤) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣)، مجمع الأنهر (١/ ٣٧٩).
(١٥) سورة التوبة (٣٦).
(١٦) سورة الحج الآية (٢٥).
(١٧) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٩٧).
(١٨) يُنْظَر: مُخْتَصرُ القُدُوري (ص ٧٠).
(١٩) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣)، الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣٢٧).
(٢٠) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: (٢/ ٣٩٨)، كشف الْأَسْرَار (٢/ ٣٧٤).
(٢١) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٩)، الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(٢٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٩).
(٢٣) التيسير في التفسير لنجم الدين أبي حفص، عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل أبي حفص نجم الدين النسفي، عالمٌ بالأصول والتفسير والأدب والتاريخ، من فقهاء الحنفية، توفي سنة (٥٣٧ هـ) بسمرقند، وكتابه التفسير مخطوطاً في مكتبة أحمد الثالث برقم (١٧٥٦) ويوجد له نسخة على شكل مايكرو فيلم في جامعة الملك عبدالعزيز. يُنْظَر: الفوائد البهية (ص ١٥٠)، تاج التراجم (٣٤ - ٣٥)، معجم المؤلفين (٧/ ٣٠٥ - ٣٠٦).
(٢٤) يُنْظَر: مدارك التنزيل للنسفي (٣/ ٣٥).
(٢٥) يُنْظَر: الكشاف عن حقائق التنزيل: (٣/ ١٥).
(٢٦) سورة مريم الآية (٢٦).
(٢٧) يُنْظَر: مدارك التنزيل (٣/ ٣٥).
(٢٨) المصدر السابق.
(٢٩) هو صاحب الهِدَايَة رحمة الله. يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٣).
(٣٠) بحثت عنه في كشف الْأَسْرَار للبزدوي ولم أجده، وعثرت عليه في شرح مسند أبي حَنِيفَةَ لملا علي قاري (١/ ٤٨٧)، وذكره في العناية (٢/ ٤٠٤).
(٣١) هو: مُحَمَّد بن قدامة بن سيار البلخى الزاهد من صغار الآخذين عن تبع الأتباع، لم يخرج له أحد من الستة وهو مقبول عن ابن حجر من الثانية عشر.
يُنْظَر: لسان الميزان (٩/ ٤١٤)، تقريب التهذيب (١/ ٥٠٣).
(٣٢) هو: شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل، من أهل بغداد. يروي عن هشيم والعراقيين، حدثنا عنه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي وغيره. مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.
يُنْظَر: (ثقات ابن حبان: ٨/ ٣١٣)، و (الجرح والتعديل: ٤/ ٣٧٩)، و (الأَعْلَام للزركلي: ٣/ ١٥٧).
(٣٣) سقط من الأصل.
(٣٤) هو: زكريا بن أبي زائدة، هو ابن خالد أبو يحيى الهمداني الأعمى الكوفي، سمع الشعبى وأبا اسحاق وسماكا، روى عنه الثوري ووكيع وابنه يحيى، وقال أبو نعيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وقال يحيى القطان: ليس به بأس.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٦/ ٣٣٤)، التاريخ الكبير (٣/ ٤٢١)، تهذيب الكمال (٩/ ٣٥٩).
(٣٥) هو: عدي بن ثابت الأنصاري. عداده في أهل الكوفة. يروي عن البراء بن عازب، وأبي أمه عبدالله بن يزيد الذي روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري. روى عنه أهل الكوفة، مات في ولاية خالد على العراق.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٥/ ٢٧٠)، التاريخ الكبير (٧/ ٤٤)، الجرح والتعديل (٧/ ٢).
(٣٦) هو: أبو حازم الأعرج اسمه سلمان الأشجعي مولى عزة الأشجعية عداده في أهل الكوفة يروى عن أبى هريرة روى عنه الأعمش ومنصور توفى في خلافة عمر بن عبد العزيز.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٤/ ٣٣٣)، التاريخ الكبير (٤/ ١٣٧)، الجرح والتعديل (٤/ ٢٩٧).
(٣٧) بحثت عنه في كتب الحديث ولم أجده إلا في شرح مسند أبي حنيفة: ص ٥١٤، وذكره شراح كتب الهداية مثل: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٩٨).
(٣٨) سقط من (أ).
(٣٩) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٩٨).
(٤٠) يُنْظَر: بِدَايَةُ المُبْتَدِي (١/ ٤٢).
(٤١) زيادة في (ب).