للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإن قلت: لاشكّ أن السّبب الذي أقيم مقام المسبب في إثبات الحكم كان أدنى [حال] (١) من المسّبب الذي هو الأصل في إثبات الحكم.

ألا ترى أنّ المسّ بشهوة أقيم مقام الوطئ في إيجاب حرمة المصاهرة باعتبار أنّه سبب الوطئ وثبوت حرمة المصاهرة بالوطئ الحلال حكم ثابت بإجماع بيننا وبين الشّافعي-رحمه الله- وفي المسّ بشهوة على الاختلاف وإن كان المسّ حلالاً وما ذاك إلا أضعف السّبب وقوة المسبّب ثم ههنا لو ارتضع الصبي من ثُنْدُوَةِ (٢) الرجل نفسه إذا نزل له اللّبن لا يثبت حرمة [المصاهرة] (٣) فكيف يثبت منه بارتضاع اللّبن الحاصل بسببه ولا يثبت من اللّبن الحاصل من نفسه.

قلت: افتراق الحكم لافتراق الوصف وذلك لأنّ المعنى الذي لأجله يثبت الحرمة بسبب الرضاع لا يوجد في إرضاع الرّجل فإنّ ما نزل من ثندوته ولا يتغدى به الصبي ولا يحصل به إنبات اللّحم وهو نظير وطئ الميتة في أنّه لا يوجب حرمة المصاهرة وإن كان المسّبب موجودًا إلى هذا أشار في الْمَبْسُوطِ (٤).

ثم اعلم أنّ ههنا دقيقة لابدّ من معرفتها وعن إهمالها وقع بعضهم في الخطأ وهي أن من شرط لبن الفحل أن يكون لبن المرأة بسبب الولادة أو الحمل من زوجها حتّى أنّه لو نزل لها لبن بدون الولادة أو الحمل من زوجها كما ينزل للبكر كان ذلك اللّبن لبن المرأة خاصّة لا لبن الزّوج وإن كانت تلك المرأة تحت زوجها.

وتفسير ذلك ما ذكره في الذّخيرة والمحيط (٥) فقال امرأة ولدت من زوج وأرضعت ولدها ثم يبس ثم درّ لها اللّبن بعد ذلك فأرضعت صبيًّا أنّ لهذا الصّبي أن يتزوّج بأبنة هذا الرجل من غير هذه المرأة قال وليس هذا بلبن الفحل وكذلك إذا تزوّج امرأة ولم تلد منه قط ثم نزل لها اللّبن فإنّ هذا اللّبن من هذه المرأة دون زوجها حتّى لو أرضعت صبيّة لا تحرم هي على ولد هذا الزّوج من غير هذه المرأة ولو زنى بامرأة فولدت منه فأرضعت بهذا اللّبن صبيّة لا يجوز لهذا الزّاني أن يتزوّج بهذه الصبية ولا لابيه ولا لأبناء أولاده لوجود البعضية بين هؤلاء وبين الزّاني فحصل من هذا أن يفسر لبن الفحل أن المرأة إذا أرضعت بلبن حدث من حمل رجل فذاك الرجل أبو الرضيع لا يحلّ لذلك الرجل نكاحها إن كان أنثى وكذلك إذا كان لرجل امرأتان وحملتا منه فأرضعت كلّ واحدة منهما صغيراً فقد صارا أخوين لأب فإن كان أحدهما أنثى لا يحلّ النكاح بينهما وإن كانا اثنتين لا يحلّ الجمع بينهما لأنّهما أختان لأب لأنّه يجوز أن يتزوّج بأخت أخيه من النّسب بأن كان له أخ لأب وأخت لأمّ فلأخيه لاب أن يتزوّج أخته لأمّ لأنّه لا نسب بينهما موجب للحرمة فكذلك في الرضاع كذا في الْمَبْسُوطِ (٦)، وكلّ صبيين اجتمعا غلب الصبيّ على الصّبية لأنّ المذكّر أبدًا يغلب على المؤنث وكما في القمرين ثم لم يرد من الاجتماع هنا الاجتماع من حيث الزّمان ولا من حيث التبني والتسري بل المراد من الاجتماع اجتماعهما في امرأة واحدة ارتضاعاً على ثدي واحدة على الإضافة أي على ثدي امرأة واحدة حتّى لو اجتمعتا في ضرع بهيمة واحدة لا يحرم أحدهما على الآخر على ما يجيء فكان هو بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد وذكر في الْمَبْسُوطِ (٧) حكاية في هذا وقال ومُحَمَّد بن إسماعيل (٨) -رحمهما الله- صاحب الإخبار كأن يقول يثبت به حرمة الرضاع فإنّه دخل بخارى في زمن الشّيخ أبي حفص الكبير (٩) -رحمه الله- وجعل يفتي فقال له الشّيخ لا تفعل فلست هنالك فأبى أن يقبل نصيحته حتّى استغنى عن هذه المسألة إذا ارتضع صبيّان بلبن شاة فأفتى بثبوت الحرمة فاجتمعوا وأخرجوه من بخارى لسّبب هذه الفتوى وهذا لأن ثبوت الحرمة بطريق الكرامة وذلك يختصّ بلبن الآدميّة دون لبن الأنعام ولا يتزوّج المرضعة أحدًا من ولد التي أرضعت المرضعة بصيغة اسم المفعول وبالرّفع على الفاعليّة ونصب أحدًا على المفعولية من ولد التي على طريق الإضافة هذا هو الأصل من النّسخ وفي نسخة أخرى ولا يتزوّج المرضعة أحد من ولد التي أرضعت بعكس الأولى في الفاعليّة والمفعولية وهذا أيضاً صحيح فكان كلاهما بخط شيخي -رحمه الله- ونسختان آخريان ليستا بصحيحتين وهما بعد صيغة اسم الفاعل في المرضعة كونها فاعلة أو مفعولة على ما ذكرنا ولكن على هذين التّقديرين لا بدّ أن يكون قوله من الولد الذي أرضعته معرفاً باللام وإذا اختلط اللّبن بالماء واللّبن هو الغالب تعلّق به التّحريم وكذا لو خلط بالدّواء أو بلبن البهيمة فالعبرة للغالب وفسّر الغلبة مُحَمَّد-رحمه الله- فقال إن لم يغيّر الدّواء اللّبن تثبت الحرمة وإن يغيّر لا تثبت وقال أَبُو يُوسُف-رحمه الله- أن غُيِّر طعم اللّبن ولونه لا يكون رضاعاً وإن غير أحدهما دون الآخر يكون رضاعًا وقيل على قول أَبِي حَنِيفَةَ -رحمه الله- إذا جعل اللّبن في دواء أو خلط بالماء لا يثبت الحرمة بكل حال كذا في فتاوى قاضي خان (١٠) [وإذا غلب الماء لم يتعلّق به التحريم خلافاً للشّافعي فإنه عنده قدر ما يحصل به خمس رضعات من اللّبن] (١١) إذا جعل في جب من الماء فشربه الصبي يثبت به الحرمة كذا في الْمَبْسُوطِ (١٢)، ونحن نقول المغلوب غير موجود حكمًا حتّى لا يظهر بمقابلة الغالب.


(١) زيادة من (ب).
(٢) ثدن، ثند، دثن: مستعملة.
ثند: قَالَ اللَّيْث: الثُّنْدُوَةُ لحمُ الثَّدَي. وَقَالَ ابْن السّكيت: هِيَ الثَّنْدُوَةُ اللَّحْم الَّذِي حول الثدي للْمَرْأَة. ثُندوة الثَّدْي، وَهِيَ رأْسه، فَقَدَّمَ الدَّالَ عَلَى النُّونِ مِثْلَ جَذَبَ وَجَبَذَ، وَاللَّهُ أَعلم،.
يُنْظَر: تهذيب اللغة (١٤/ ٦٤)، الصحاح (٥/ ٢٠٨٨)، مختار الصحاح (١/ ٤٨)، لسان العرب (١٣/ ٧٨).
(٣) وفي (ب): (الرضاع).
(٤) يُنْظَر: الْمَبْسُوطِ (٥/ ١٣٩).
(٥) يُنْظَر: المحيطالبرهاني (٣/ ٦٩).
(٦) يُنْظَر: الْمَبْسُوطِ (٥/ ١٣٣).
(٧) يُنْظَر: الْمَبْسُوطِ (٥/ ١٣٩).
(٨) مُحَمَّد بن إسماعيل: هو أبو عبدالله مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة وقيل بزرويه وقيل بن الأحنف الجعفي مولاهم أبو عبدالله البخاري. صاحب الصحيح الإمام المشهور، ولد سنة (١٩٤ هـ)، مات سنة (٢٥٦ هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء (١٢/ ٣٩١ - ٤٧١)، تهذيب التهذيب (٩/ ٤٧).
(٩) أبو حفص الكبير: هو أَحْمد بن حفص أبو حفص الكبير البخاري … أخذ العلم عن مُحَمَّد بن الحسن، وله أصحاب كثير ببخارى. قال شمس الْأَئِمَّة قدم مُحَمَّد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح بخارى فى زمن أبي حَفْص الْكَبِير. يُنْظَر: جواهر المضية (١/ ٦٧)، تاج التراجم (١/ ٩٤).
(١٠) يُنْظَر: البحر الرائق (٣/ ٢٤٥).
(١١) ساقط من (ب).
(١٢) يُنْظَر: الْمَبْسُوطِ (٥/ ١٤٠).