للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطائِفتان المُتطَرِّفتان: إحداهما قالت: إن الإنسان يَشاء عمَله، ولا عَلاقةَ لله تعالى به، فالإنسان حُرٌّ يَتصرَّف كما يَشاء، وليس لله تعالى فيه تَدخُّل إطلاقًا هو يَهدِي نفسه، وهو يُضِلُّ نَفْسه. قالوا: ولولا ذلك لكان تَعذيب الله تعالى للعاصي ظُلمًا وثوابه للطائِع عبَثًا؛ لأنك إذا قُلت: إن الإنسان ليس بحُرٍّ، فهو مُدبَّر، والمُدبَّر لا يُحمَد على فَضْل، ولا يُذَمُّ على سوء.

ومن المَعلوم: أن الله تعالى رتَّب الذَّمَّ على العاصي والمَدْح على المُطيع، فهذا يَدُلُّ على أن فِعْل العَبْد فِعْلٌ مُستَقِلٌّ.

أمَّا المُتطرِّفون الآخَرون فقالوا: إن الإنسان لا مَشيئةَ له، ولا قُدرةَ له، ولا اختِيارَ له في فِعْله، بل هو مُجبَرٌ عليه عاجِزٌ عن المُخالَفة يُجبَر جبرًا؛ فيَأكُل جَبْرًا، ويَشرَب جبرًا ويَتقدَّم جبرًا، ويَتأخَّر جبرًا، وليس له اختِيار على أيِّ حال، وتعذيب الله تعالى للظالِم ليس ظُلْمًا، وإن كان الظالِم يَفعَل بغير اختِياره؛ لأن تَعذيب الله تعالى له تَصرُّفٌ في مِلْكه، والله عَزَّ وَجَلَّ يَفعَل ما يَشاء، لا مُعقِّب لحُكْمه، فحينئذٍ لا يَرِد علينا ما استَدَلَّ به الطرَف الأوَّل الذي قال: لو كان الإنسان غير مُطلَق الحُرِّية لكان تَعذيب العاصي ظُلمًا، وإثابة الطائِع لَغوًا.

ونحن نَقول: إن تعذيب الظالِم ليس بظُلْم، وإن كان مُجبَرًا؛ لأن الله تعالى مالِكه يَفعَل فيه ما يَشاء كما أنت تَفعَل في مِلْكك ما تَشاء؛ فتَهدِم البيت، وتَبني البيت، وتَبيع السَّيَّارة، وتَشتَري بدَلها، وما أَشبَه ذلك.

فالطرَف الثاني يُسمَّوْن: الجَبْرية، والطرَف الأوَّل يُسمَّوْن: القدَريَّة، وسُمِّيَ الطرَف الأوَّل: القَدَرية؛ لأنهم يُنكِرون قَدَر الله عَزَّ وَجَلَّ فيما يَتعَلَّق بفِعْل العَبْد، وسُمِّيَ هؤلاء: جَبْرية؛ لأنهم يَرَوْن أن العَبْد مُجبَر على عمَله.

<<  <   >  >>