للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويَتساوَى عند هؤلاء مَن نزَل من السُّلَّم بتُؤدة وطُمأنينة دَرجةً دَرجةً ومَن دُفِع من أعلى السُّلَّم حتى انزخَّ (١) على وَجْهه، يَقولون: كلٌّ سواءٌ، كلٌّ مُجبَر.

أمَّا أَهْل السُّنَّة والجماعة فإنهم تَوسَّطوا في هذا، وقالوا: إننا نُثبِت الأدِلَّة الدالَّة على أن كل شيء واقِع بمَشيئة الله تعالى، ونُثبِت الأدِلَّة الدالَّة على أن للإنسان اختِيارًا وإرادةً، وبذلك نَجمَع بين الأدِلَّة، فنَقول: فِعْل العبد واقِعٌ بمَشيئته، لكن مَشيئته تَحت مَشيئة الله تعالى، فإذا شِئْت أنا شيئًا فإنني أَعلَم أن الله تعالى شاءَه، ولا يُمكِن أن أَعلَم بأن الله تعالى شاء شيئًا إلَّا بعد أن يَقَع؛ لأن قضاء الله تعالى سِرٌّ مَكتوم لا نَعلَم عنه، لكن إذا وقَعَ علِمنا بأن الله تعالى شاءَه، فأَنا لا أَشاءُ إلَّا ما شاء الله تعالى، ولكني في نَفْس الوقت لي حُرِّية أن أَشاء ما شِئْت إلَّا أنني أُومِن بأن مَشيئتي هذه كانت بمَشيئة الله تعالى.

ويَدُلُّ لهذا: أن الإنسان أحيانًا يَعزِم على فِعْل شيء، وبين ما هو مُتَّجِهٌ له إذ انتقَضَت عَزيمته إلى اتِّجاهٍ آخَرَ أو إلى إلغاء العمَل؛ إِذَنْ فهناك سُلْطة فوقَ سُلْطته، لكِنَّ هذه السُّلطةَ غير مَعلومة، ولا تُعلَم إلَّا بآثارها؛ وقد قيل لأَعرابيٍّ: بمَ عرَفْت ربَّك؟ قال: بنَقْض العَزائم، وصَرْف الهِمَم. فهذا أَعرابي بدَويٌّ أَجاب بهذا الجوابِ العَجيب: عرَفْت ربِّي بنَقْض العزائِم، يَعنِي: أَعزِم على الشيء ثُم تَنتَقِض عَزيمتي بدون سبَب، وصَرْف الهِمَم، أي: أَهِمُّ بشيء إلى اليَمين، ثُم أَجِدني مُنصرِفًا إلى اليسار بدون سبَب إلَّا من الله عَزَّ وَجَلَّ.

فأَهْل السُّنَّة والجَماعة يَقولون: الإنسان يَشاء ويَختار، وليس مُجبَرًا، لكن أي شيء يَشاؤُه فهو بعد مَشيئة الله تعالى نَعلَم أن ذلك بمَشيئة الله تعالى، وهذا هو الذي


(١) انزخ: أي دُفع ورُمي إلى مكان منخفض. تاج العروس (زخخ).

<<  <   >  >>