للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال جرير: وقد كان قيل له: إنَّك تُقتَل بروميّة، فظنَّها بلدَ الروم، ثم قال: إنا لله، ذهبت والله نفسي بيدي، ثم أقبلَ يخاطب نفسَه ويقول: ويحَك يا أبا مسلم، فتحَ الله لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح لأحدٍ، حتى إذا دانَ لك مَنْ بينَ المشرق والمغرب خدعَك عن نفسك من كان بالأمس يهابُ من ينظر إليك، ثم تمثَّل: [من الوافر]

فهل من خالد إمَّا هلكنا … وهل في الموتِ يا للناسِ عارُ (١)

وقال المورياني: دخلتُ على أبي جعفر وهو جالسٌ في خباء من شعر، وبين يديه كتابُ أبي مسلم، يذكرُ فيه أنَّه قادمٌ عليه، فرمى به إليّ، وكان قد صلَّى العصر وهو في مصلَّاه، فقلت له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: والله لئن ملأتُ عيني منه لأقتلنَّه، فاسترجعتُ في نفسي وقلت: ما أرى أصحابَهُ يرضونَ بقتله، ولا يدعون منَّا أحدًا [حيًّا] (٢)، وبعثتُ في الليل إلى سلمة بن سعيد بن جابر (٣)، ووعدتُه بالولايات والأموال، وقلتُ: تلتقي غدًا أبا مسلم وتعدُه وتمنِّيه عن أمير المؤمنين وتقول [وتقول]، وكان قصدي أن يطمئنَّ، فقال: أفعل، فدخلت على المنصور وأخبرتُه بما خطر لي وما فعلت، فقال: ادع سلمة، فدعوته فدخل، فقال: إنَّ أبا أيوب استأذن [لكم] (٤) أفتحبُّ أن تلقى أبا مسلم؟ قال: نعم، قال: فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، وصف له شوقي إليه، فخرج فلقيَه، فأخبره. وقال: إنَّ أمير المؤمنين أحسن الناس رأيًا فيك، فطاب قلبه وسرّ، وكان خائفًا، فلمَّا قرب من المدائن أمرَ أبو جعفر الناسَ بتلقيه، فلمَّا كان عشية قدم، قلت للمنصور: هذا الرجلُ قد قدم، فماذا تريد أن تصنع؟ قال: أقتله حين تقع عيني عليه، فقلت: أنشدك الله أن [لا] (٥) تفعل هذا، إنَّه يدخلُ عليك معه الناس وأصحابه، فإن دخل ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخلَ عليك فأكرمه ومُره بالانصراف، فإذا كان غدًا فارأ فيه رأيَك، فدخلَ عليه عشيةً، فسلَّم وقام قائمًا بين يديه، فردَّ وقال له: قد وصلتَ متعوبًا، فانصرف فأرح نفسك، وادخل الحمَّام فإن للسفر قشفًا، ثم اغد عليّ.


(١) المنتظم ٨/ ٧، والبيت منسوب لعدي بن زيد في الشعر والشعراء ١/ ٤١.
(٢) ما بين حاصرتين من (د).
(٣) في (خ) و (د): سلمة بن سعد بن رجاء. والتصويب من تاريخ الطبري ٧/ ٤٨٦، والكامل ٥/ ٤٧٤.
(٤) ما بين حاصرتين من (د).
(٥) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. وانظر تاريخ الطبري ٧/ ٤٨٧.