للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله: (أسألك بكل اسم هو لك)]

وقوله: (أسألك بكل اسم هو لك) نزه الله عز وجل قبل أن يسأل، فاعترف بالعبودية والذل وخلع حوله وقوته، وأثبت العجز الكامل لنفسه، وأن الله حكيم لا يفعل الشيء إلا لحكمة، وأثبت أن ما نزل به من المصيبة فبما كسبت يده، بعد كل هذه الديباجة بدأ يسأل: (أسألك بكل اسم هو لك) وأيضاً قبل أن يسأل بدأ بالثناء على الله: (بكل اسم هو لك)، والأسماء والصفات أعظم الأبواب لزيادة الإيمان.

وروى أبو ذر الهروي في فوائده أن خالد بن صفوان دخل على هشام بن عبد الملك، فكان خالد بن صفوان خطيباً بليغاً، فقال خطبة طويلة بين يدي هشام يذكره فيها بما أنعم الله عز وجل عليه، وبامتداد ملكه، وبما له من الشوكة والسلطان والاستقرار، وقال: فإن شئت يا أمير المؤمنين ذكرت لك مثلاً من الملوك قبلك، فقال له: قل.

قال: كان ملك قبلك وكان شاباً فتياً، وله مملكة رائعة كلها خضرة وزهور، وبينما هو جالس في هذا النعيم إذ قال لحاشيته: هل تعلمون أحداً فيما أنا فيه؟ قالوا: لا.

وأثنوا عليه وأطنبوا، فقال شيخ كبير أدبه الحق، وقام لله بالحجة، فقال: أنا أقول لك! قال: قل.

قال: هذا الذي أنت فيه شيء أصيل أم ورثته عن غيرك، وهو سيكون إلى غيرك؟ قال: بل ورثته عن غيري ويكون إلى غيري، قال: إذاً فما يفيد ما أنت فيه؟ قال: ويحك! وما المهرب؟ قال: أن تعمل بأمر الله على ما أمرك وأعطاك وأسعدك، أو تخلع هذا التاج وتسيح في الأرض فتعبد الله؟ قال: أمهلني حتى السحر، فإذا كان السحر فاقرع بابي فإني متدبر في هذا الأمر، فلما كان السحر قرع الباب فإذا به يجد الملك قد خلع التاج ولبس أطماراً باليه، وقال: أرضى أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، ولو رضيت بالملك لاتخذتك وزيراً، وقد رضيت بالسياحة فاخترتك رفيقاً، فدخل هذا الرجل ورفيقه في جبل فعبدا الله حتى ماتا، فلما سمع هشام ذلك بكى حتى اخضلت لحيته، وأمر بما كان من الطنافس وفأخرجت، فناله بعض حاشيته -أي حاشية هشام - وقالوا: كدرت عليه، ونغصت عليه، فقال: إني عاهدت الله عهداً ألا أدخل على ملك، إلا قمت بما أوجب الله عليَّ من النصح.

لقد ترجم خالد بن صفوان مظاهر الجلال لرب العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:٤٠] مع أن الآيات كان يمكن أن تكون: (إنا نرث الأرض) والمعنى مستقيم، لكن جاء ضمير العظمة المنفصل (نحن)، ويضاف إلى ضمير العظمة المجاور له (إنا)، و (نرث) أيضاً ضمير عظمة، فالإنسان إذا راقب جملة معاني أسماء الله عز وجل ازداد بها إيماناً، وإذا راقب نعوت الجلال انكسرت رقبته، وإذا راقب نعوت الجمال تعلق به، وإذا راقب الأمر والنهي امتثل وخف عليه التكليف، وإذا راقب صفات التوكل وأن الله عز وجل يدفع عن عبده ويقيه قوي قلبه على التوكل، وإذا راقب مقتضى السمع والبصر أورثه ذلك الحياء من الله، من أن يقيم على معاصيه، أو أن يسمع منه ما يكره.

هذه هي معاني أسماء الله عز وجل، ولذلك تأمل آخر الآيات: (إنه هو: الحكيم، العليم، القدير، الخبير، العزيز) وراقب هذه الصفات وتدبرها مع الآية تجدها في غاية الروعة، وأن غيرها لا يغني عنها: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:٩] لا تكون (العزيز الحكيم)، فالرحمة هنا تقوم أكثر من مقام الحكمة، وتدبرها.

قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك) وهذا يدل على أن بعض الأسماء خاصة، لا يعرفها إلا بعض الناس، أو آحاد الناس، كاسم الله الأعظم، وإنما يعلمه الله بعض عباده: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) أي: لا يعلمه أحد قط، وفي هذا دلالة على أن أسماء الله لا تحصر في تسع وتسعين بل هي أكثر من ذلك، وهو الذي عليه جماهير العلماء، وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يفيد الحصر، ولا يحصر أسماء الله في التسعة والتسعين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.