للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإخلاص هو أول عدة الداعية إلى الله]

قبل طلب العلم هناك ركيزةٌ أساسية ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الركيزةٌ البدهية هي الإخلاص لله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:٥]، فقدم الإخلاص قبل العمل، إذ إن العمل لا قيمة له بغير الإخلاص: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:١٤]، وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:٣]، وكلمة خالص تعني: نقي لم يخالطه شيء.

فقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥]، حصر دينه كله في الإخلاص له، وتحقيق الإخلاص عزيز لكنه ممكن، فالإخلاص إما أن يكون ركناً أو شرطاً، أو واجباً، على ثلاثة أقوال للعلماء، واتفقوا جميعاً أن العمل بغير الإخلاص لا قيمة له، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، لخلوه من الإخلاص، فلابد من الإخلاص في العمل، وهو إذا كان ركناً أو شرطاً أو واجباً فلابد أن يكون يسيراً، إذ لو كان عسيراً لما فرضه الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وأعظم أمر في الدين هو الإخلاص، فإذا أوجبه الله على عباده ناسب للطفه عز وجل وبره بعباده ألا يعكر عليهم طريق تحقيق أعظم شيء في الأعمال وهو الإخلاص.

أما المقالة التي قالها رويم بن أحمد، وذكر هذه المقالة الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: (من لحظ في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص).

فنحن لو سلكنا هذه المقالة وقبلناها على مضض فمعناها: من تفاخر على الناس بأنه مخلصٌ واستعلى عليهم بذلك فإن إخلاصه يذهب سدى لهذا العجب وهذا الكبر، لا يقال له: إخلاصك صدق فأعد الكرة مرةً أخرى بالإخلاص، هذا إذا سلكنا هذه المقالة، وإلا فالصوفية لها أقوالٌ تعجيزية في باب الإخلاص، كمثل قول رويم بن أحمد أيضاً: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) من الذي يستطيع هذا في الدنيا؟! من الذي يعمل العمل ولا ينتظر عليه عوضاً لا في الدنيا ولا في الآخرة؟! وسئل عن الإخلاص فقال: (أن يستوي عندك المدح والذم)، وهذا مستحيل! أن يشتمك الرجل وأن يمدحك سواء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا شُتِم أو ذُم، والله تبارك وتعالى يرضى إذا مُدِح ويغضب على العبد إذا انتقصه.

جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إن مدحي زين وذمي شينٌ -أي من مدحته فذلك المرفوع، ومن ذممته فذلك المخفوض- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل)، لست أنت ولا غيرك، ذاك الله عز وجل فمن مدحه الله رفع ومن ذمه أهين: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:١٨].

قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر وليا هذا هو الله تبارك وتعالى، فلا يستوي عند رجلٍ المدح والذم، وإلا لماذا يغضب الناس من الذم، بل كان أولياء الله المتقون من الصحابة يزعجهم ويغضبهم الذم، وتتلون وجوههم، وها هو أجل وليٍ لله عز وجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر رضي الله عنه وقع فيه رجل فغضب أبو بكر واحمر وجهه، فقال قائلٌ: يا خليفة رسول الله! ألا أقتله؟ فهدأ أبو بكر وقال له: أكنت فاعلاً؟ قال: نعم.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: (ما كانت هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي أن الذي يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ويذمه ويقع فيه حده القتل.

فإذا قال قائلٌ الإخلاص: أن يستوي عندك المدح والذم، فقد كلف الناس ما لا يطيقون، بل المدح يتهلل الناس له، والذم ينزعجون منه، وكذلك لما سُئل أحدهم -وكل هؤلاء من الصوفية - عن الصبر، قال: أن تستوي عندك النعمة والنقمة، سبحان الله! ومن الذي يطيق ذلك في العالمين؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما مات ولده حزن عليه ودمعت عينه، بل لما قتل عمه حمزة وجد عليه وجداً شديداً، وأقسم ليمثلن بالمشركين، ولم يكن هذا من عادته ولكن لشدة وجده على مقتل عمه، وهل يستوي عنده مقتل عمه صلى الله عليه وسلم وانتصاره في يوم بدر -مثلاً- أو عند المؤمنين؟ ولذلك بسبب مثل هذا التعريف الخاطئ مات لبعض المتزهدة ولد فجعل يضحك، فقالوا له: أتضحك وقد مات ولدك؟ قال: إني أردت أن أظهر الرضا بقضاء الله عز وجل، فلما أراد أن يظهر الرضا لقضاء الله ضحك في موطن الفتنة والبلاء والحزن، فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد استشكل بعض القارئين هذه الحكاية، فقالوا: كيف يضحك هذا الرجل لما مات ولده بينما يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس يقيناً؟! لو كان الضحك في المصيبة منقبة لفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يبكي النبي عليه الصلاة والسلام والدموع علامة الجزع ويضحك هذا العابد والضحك علامة الرضا والانبساط؟ فلما حصل استشكال هذا المعنى، عُرضَ هذا على شيخ الإسلام رحمه الله، فقال: فعل نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من فعل هذا العبد الزاهد؛ لأن لله عز وجل في كل شيء عبودية، وعبودية الله على العباد في وقت المصيبة أن يظهروا الاستكانة والتضرع لقضائه، قال تبارك وتعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣]، يعني: لما وقع البأس عليهم هلا تضرعوا وبكوا واستكانوا، هلا فعلوا ذلك لنرفع عنهم؟ فعبودية المحن الانكسار بين يدي الله، والمحنة من طبيعتها أنها تسخن النفس، فالسخونة تفرز الدمع مباشرةً، والنفس الباردة لا يمكن أن تبكي، ولذلك إذا تحسست الدموع وجدتها ساخنة؛ لا تجد دمعاً باردة.

فالرسول عليه الصلاة والسلام أدى عبودية المحنة، وأدى عبودية الرضا بقضاء الله عز وجل، فقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فكانت عبودية النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من عبودية هذا العبد الذي عجز قلبه عن استيعاب عبودية المحنة وعبودية الرضا، فقدم عبودية الرضا -إظهار الرضا- على عبودية قبول البلاء والصبر عليه.

فالصوفية لها خرافات لم يأت بها الشرع، وهي تكليفٌ بما لا يطاق، ومعروف أن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة، بل من مذهب أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فهم يجوزون على الله أن يظلم، ويقولون: فعال لما يريد، إذا ظلم جاز له ذلك!! كيف والله عز وجل قال في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي)؟ وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠]، ويجوزون التكليف بما لا يطاق، مثلاً: يقولون: يجوز أن يكلف الله عز وجل العبد بحمل جبل أحد على كتفيه، هم يقولون: يجوز، وأهل السنة قالوا: مستحيل! إن الله لا يكلف ما لا يطاق، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧]، فأنت تعارض الأدلة القطعية.

وبعد ذلك كل الرخص نزلت في حالة إذا عجز العبد عن العزيمة أخذ بالرخصة: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ما معنى هذا التنزل؟ لو جاز أن يكلفك بما لا تطيق لما رخص للعبد أن يتكلم بكلمة الكفر وقال له: لا تتكلم واصبر على أذى الظلمة، حتى لو ذبحوك اصبر ولا تتكلم بكلمة الكفر، لكن لماذا رخص له أن يتكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئاً بالإيمان؟ هذا كله ينافي القول بتكليف ما لا يطاق.

فعندهم بعض الإطلاقات والتسويات بين الأضداد، وهذا يخالف الحنيفية السمحة، ورويد بن أحمد هذا الصوفي المشهور الذي يقول: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) كان يدعو الله بأن يبتليه، وأنه سوف يصبر على البلاء، فابتلاه الله عز وجل فحبس فيه البول، فكان يتقلب ويدعو الله عز وجل أن يرفع عنه، وأنه لا يطيق، وأنه لا يتحمل، وظل يجأر إلى الله عز وجل حتى عافاه الله عز وجل، فلما عافاه الله عز وجل جعل رويد بن أحمد يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب! عمكم الكذاب الذي زعم أن الله إن ابتلاه فسوف يراه في مسلاخ رجل صابر.

الرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل على عمه العباس رضي الله عنه وكان مريضاً سمع العباس يدعو ويقول: (اللهم إن كنت مؤاخذي بشيء في الآخرة فشدد علي في الدنيا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة)، لو شدد عليك في الدنيا لا تقدر على تحمل بلاء الدنيا، سل الله العفو في الدنيا والآخرة، فكان لابد أن تدعو وتسأل بدلاً من أن تقول: ابتلني في الدنيا أن تقول ارفع عني، فاسأل الله عز وجل أن يعافيك.

تحقيق الإخلاص عزيز؛ فالشيطان يريد أن يعكر عليك هذا الركن؛ لأن بفساده فساد العمل كله، فبدل أن يأتي يعكر عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صلاة، أو زكاة، أو صدقة، مفردات كثيرة يعكر عليك الإخلاص، وإذا عكر عليك الإخلاص فقد عكر عليك كل العمل، فبدلاً من أن يدخل عليك في كل عمل ويتعب نفسه يعكر عليك النية والقصد.

فلذلك الشيطان ينازع العبد في الإخلاص، فالعبد يقبل على العمل وهو مخلصٌ لله عز وجل من كل قلبه، فيأتي الشيطان يقول له: أتظن بذلك أنك أخلصت؟ لا.

هذا ليس بإخلاص، فالعبد من خوفه على الإخلاص يظن