للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص]

هناك رجل ألَّف كتاباً يطعن فيه في السنة النبوية بزعم أن الفقهاء يخالفون المحدثين فيها، فلما جاء حديث: (الوائدة والموءودة في النار) قال: هذا مستحيل أن يكون، بل هذا حديث به علة قادحة.

وليس في الحديث علة؛ لأن العلماء يقولون في هذا الأصل: إذا لم تعلم شيئاً فكِلْهُ إلى عالمه، فهلا سأل إذا لم يعلم.

! لكن لأنه ظن أنه لا يوجد في الأرض عبد يمكنه أن يرجع إليه لم يسأل.

ثم إذا سألت غيرك فلم تجد جواباً، فاحمل اللفظ على بعض ما تقتضيه الأصول، وإلا فقل: الله أعلم.

وهنا (الوائدة والموءودة في النار) الوائدة: لأنها ظلمت، فما بال الموءودة؟ أي التي قتلت ظلماً لماذا تدخل النار؟ من جملة ما يوفق العلماء به أن يقولوا: أن الألف واللام للعهد، وليست للاستغراق، فيقولون: إن الحديث خرج مخرج الخصوص، فهي وائدة بعينها وموءودة بعينها.

فالألف واللام وإن كانت تفيد الاستغراق لكنها أيضاً تفيد العهد الذي يشبه الخصوص، كما أن الاستغراق يشبه العموم في قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] مع قوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:١٥٨] فلفظ (الناس) في هذه الآية يفيد عموم الناس جميعاً، من يهود ونصارى ومجوس وزنادقة وشيوعيين، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:١٥٨] فالألف واللام هنا خرجت مخرج العموم بنفسها وبمقتضى سياق الآية، في حين أن قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] يراد به خصوص المسلمين، فيخرج منه اليهود والنصارى وغيرهم، فقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] لا يشمل النصارى واليهود؛ لأنه لا يحج البيت مشرك.

فالألف واللام في الحديث حملت على العهد، أي على الخصوص، في حين أنها حملت في الآية الأولى على الاستغراق، فشملت جنس الناس جميعاً.

فمن جملة ما يوفق العلماء به بين الأحاديث أو الآيات التي ظاهرها التعارض: أنهم يحملون الألف واللام على الخصوص، فيقال: إن الحديث ورد بوائدة مخصوصة وموءودة مخصوصة، كأن تكون الموءودة قد طبعت كافرة، كما في الحديث الذي رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع كافراً) أي: خلقه الله كافراً، فيمكن أن تكون الموءودة طبعت كافرة، فهي في النار لهذا الاعتبار، والوائد في النار لظلمه.

فلماذا لا نسلك سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض؟ لكن الواحد يعتد بعقله، وكل شيء لا يقبله عقله -كأنه ليس للناس عقول- يقول: هذا باطل وفيه علة، لذلك فالعقل مكانه في المرتبة الثانية بعد النقل، ووظيفة العقل إعمال الفكر في النقل، ولهذا المجنون لا يجتهد، بل المجنون قد سقطت عنه العبادة والتكليف، والمخالفون يقولون: إننا بتقديم النقل نزري بالعقل! ونحن -أهل السنة- ما وضعناه إلا في موضعه الصحيح، وما ضل المعتزلة عن منهج أهل السنة إلا لأنهم جعلوا العقل قاضياً على النقل، فكل شيء وافق عقولهم، فهو صحيح، وما خالف عقولهم فهو باطل مردود.

فالمقصود بالكلام أن كلمة التوحيد تكون أولاً، وأي اجتماع لا يكون على التوحيد لا قيمة له.