للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصحابة يتسابقون على الموت]

يا أخي الكريم! أمرنا الله عز وجل بشيء فيه لمسةٌ جميلة، رأيتها واضحةً جليةً في حياة الصحابة، أنهم كانوا يذكرون الله عز وجل في أحلك الظروف.

والإنسان إذا وقع في شر يفقد عقله، ولا يستحضر في هذا المجال إلا من يؤمِّن نصره، ومن يحب، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥].

وأنت مقبل على عدوك وخائف نتيجة الحرب، اذكر الله عز وجل يثبت قلبك: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:٤٥] وكان ذكرُ المحبوب في وقت الخوف من علامة الحب عند بني آدم انظر إلى عنترة بن شداد يقول: ولقد ذكرتكِ والرماح كأنها أشطان بئر في لَبان الأدهمِ فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المتبسمِ هذا فائق جداً! الرجل في الحرب والكر والفر، وينظر إلى الرقاب وهي تطير.

الحرب قائمة على قدم وساق، يقول: إن الرماح كأنها أشطان بئر، أنت عارف عندما يكون ثَمَّ بئر ويريد الإنسان أن يستسقي الماء من البئر فيرسل الدلو بحبل، فالرمح عندما يدخل في صدر الفرس مثل هذا الدلو عندما ينزل البئر.

في لَبان الأدهم: أي في صدر الأدهم وهو الجواد الذي يركبه.

فـ (وددت تقبيل السيوف): من كثرة حبه لـ عبلة، فإن السيوف ذكَّرته بها وهي تلمع فأحب أن يصل إلى السيوف ويقبلها، ويرى أن هذا من علامة الفخار، أن يذكر محبوبه في مثل هذا الوقت! والله عز وجل أمرنا أن نذكره في وقت الخوف، فتن ظاهرة جداً، ومن قرأ غزوات المسلمين وجد هذا واضحاً جلياً، كانوا يتسابقون على الموت.

أنس بن النضر قَلَّ مَن يعرفه إلا الدارسون، وهو عم أنس بن مالك: في ليلة أحد وجد أنه سيموت في أول من يموت، ثم لما اشتدت الحرب وصرخ الشيطان: مات محمد، وانقسم المسلمون وجلس بعضهم يبكي فمر أنس بن النضر على جماعةٍ من المسلمين قد ألقَوا أسلحتهم وجلسوا يبكون قال: ما يبكيكم؟ قالوا: مات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وقاتل حتى قُتِل.

وهذا عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله في صبيحة أحد قال لابنه جابر: يا بني! إني أراني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً، وكان مِن أول مَن قُتِل.

وعبد الله بن جحش كان يقول: اللهم لقني عدواً عظيماً حرثُه -سلطان- عظيماً كيده، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني: فيم قتلت يا عبد الله؟ أقول: فيك يا رب.

وهذا عمرو بن الجموح كان شديد العرج، وكان له ستة أولاد كلهم من الفرسان يقاتلون في سبيل الله، فأراد في غزوة أحد أن يخرج فيقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أولاده: يا أبانا! إنك ممن عَذَر الله عز وجل؛ فبكى وقال: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، وشكاهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: دعوه لعل الله أن يرزقه شهادة، وماذا يفعل أعرجٌ في حرب فيها كر وفر؟ فقُتل أيضاً مع الذين قتلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطأ بعرجته في الجنة وما بها من عوج).

فعندما تنظر إلى هؤلاء الصحابة الذين كانوا يتسابقون على الموت: أفتظن هؤلاء ينافس بعضُهم بعضاً على حُطام الدنيا؟ أبداً! فقضية العبادة بالحب كانت موجودة جداً عند الصحابة؛ لأنهم حافظوا على الفرائض التي هي على سبيل الوجوب، فهان عليهم المستحب، كالصبر على المظالم مثلاً: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كذلك فكأنما تسفهم المل -الذي هو الرماد الحار- ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك).

فأي الناس يصبر على مثل هذا الذي قاله هذا الصحابي؟ قليل.

فالمستحب دائرته واسعة جداً جداً، لا يحيط بها إلا نبي.

فهذه هي الأوامر، فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يراعون مثل هذا، فكان عندهم ذوق عالٍ جداً.

انظر ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عن أكل الغراب، فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، قال: (مَن يأكل الغراب وقد سماهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!) فمجرد أن يسميه فاسقاً لا يؤكل.

انظر! يستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، لو كان في الغراب خير ما سماه فاسقاً؛ فيستدل بالتسمية على تحريمه، وهذه حجةٌ عجيبة تدلك على ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الفطنة العالية.

وكذلك مثله ما رواه الطبراني في الأوسط بسندٍ فيه لين، أن عبد الله بن عمر وابنه سالم بن عبد الله، كانا عند الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا الرجل وخذ معك سيفاً فاضرب عنقه على الباب.

فأخذه سالم وأخذ السيف معه وانطلق به من الباب، فقال له سالم: أصليت الصبح؟ قال: نعم.

فقال له سالم: خذ أي طريق شئت.

ثم رجع والسيف في يده.

فقال له الحجاج: أقتلت الرجل؟ قال له: لا.

قال له: لِمَ؟ قال: لأن أبي هذا -وأشار إلى أبيه عبد الله بن عمر - حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله).

شخص في ذمة الله كيف أقتله وأجور على حمى الملك، أأقتل مَن هو في ذمة الملك؟! فأطرق الحجاج وسكت.

فقال عبد الله بن عمر لابنه: إنك مسالم، إنما سميتك سالماً لتسلم! فكان له من تسمية أبيه نصيب.

هذه أشياء تعد في غاية البساطة بالنسبة لمواقفهم الكبيرة، وإنما تلقوا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بآذانٍ مفتوحة، وبقلوب مفعمة بالإيمان، وهذا سمت المحب، لا أن يسمع وهو متضايق كاره، فيذهب عليه نصف الكلام، أو ثلث الكلام أو ربع الكلام أو كل الكلام، إنما كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيرمقونه، تكون أعينهم مثل (الكاميرا) المسجلة، ما يفعل هذا إلا محب.

اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.